مسرحية الكلمة والكاتب - مراد السباعي

الكلمة والكاتب مراد السّباعي
( الكاتب وراء منضدته يحاول أن يكتب شيئاً ، فلا يطاوعه الفكر، فجأة تبرز أمامه فتاة حسناء أنيقة رصينة).
الكاتب: من أنت؟ وكيف جئت؟ فالباب مغلق من الداخل ، أكنت تختبئين في غرفتي ؟
ولم تفعلين ذلك؟
الفتاة: أنا الكلمة . أما من أين جئت ، فلقد خرجت من صفحات كتبك.. من نفسك.. أنسيتني؟
أنا أداتك المبدعة ، سرّ نجاحك فيما تكتب ، أنا التي منحتك الشهرة والثناء، وجعلتك
كاتباً مرموقاً. ابحث عني في كتبك ، ألا تجدني في كل صفحة من صفحاتها؟ فكيف
تنكرني؟.
الكاتب: ما أجملك يا صديقتي ، يا رفيقة دربي منذ عشرين سنةً. لم أكن أتصورك في مثل هذا
الجلال وهذه الروعة ما يدهشني فيك هذا التحوّل من فكرة إلى جسد، فماذا تريدين من
ذلك؟
الكلمة: اعتزمت القيام بجولة بين الناس لأرى مدى تأثير القيم السامية التي أعبّر عنها في
حياتهم وسلوكهم.
الكاتب: أخشى عليك من الصدمة ، أخشى عليك من الانهيار أمام الواقع.. هذا الواقع الذي
يختلف كثيراً عمّا نريد له أن يكون.إننا نتكلم عن الصدق والشرف والاستقامة
والتضحية و الحرية ، نتكلم عن موضوعات شتى تجعل من الإنسان إنساناً بالمعنى
الصحيح ، لكننا لا ندري إذا كان لكلماتنا ذلك الـتأثير الكبير.
الكلمة : أريد أن أعرف ، أريد أن أرى الأشياء على حقيقتها ، أريد أن أخرج من الصفحات
المطوية في كتبك لأفهم حقيقتي فلا تحاول أن تمنعني عما أريد . أريد الخروج من
سجن كتبك لأرى الحياة على حقيقتها ، لا كما تصوّرها أنت ، في دائرة التخيّل.
الكاتب: ما دمت تصرين على ذلك فاذهبي.
الكلمة: أرجو أن تظلّ صادقاً فيما تقول.
الكاتب:سأكون كما تشائين بالرغم من المغريات الكثيرة، نحن ضعفاء أمام المادة. في كثير من
الأحيان أخجل من نفسي حين أتصفح كتبي وما تضمنت من الأفكار السامية لا أجدني لا
ألتزم الأفكار التي أومن بصحتها وأقدّمها للناسي ليستعينوا بها في تكوين حياتهم على
نحو أفضل.
الكلمة: أنا اعرف هذا فيك ، ولكني أريد أن أعرف كما قلت لك ما أعطيه للآخرين .
الكاتب : اذهبي ، لكن أرجوك ألاّ يطول غيابك عنّي.
الكلمة: اطمئنّ ، فلن أتخلّى عنك.
( تفتح الباب وتخرج).


الكاتب ( وحده) : آه.. ماذا أفعل الآن بعد غياب الكلمة .. أو ماذا أستطيع أن أفعل .. لاشيء..
أشعر بالعجز .. بالضحالة . أصبحت إنساناً فارغاً أجوف كالطبل. ما أشدّ حزني لذلك.
ولكن ثمة بارقة من أمل ، لقد قالت إنها ستعود .. ولكن متى؟.. إنها لم تحدد وقتاً
لعودتها .. وهل أبقى هكذا مشلول الفكر؟ لا بدّ لي من شيء آخر أملأ به فراغي.. لا بدّ
من العمل.. ولكن ماذا أعمل ؟ .
( يطرق مفكراً) لماذا لا أعمل كما يعمل الآخرون ؟ لدي بعض المال ، يمكنني أن احترف
التجارة ، أو أيّ حرفة أخرى، وعندما تعود الكلمة إليّ أعود إلى الكتابة.
( بعد ثلاث سنوات)
( تعود الكلمة إلى مكتب الكاتب ، فتجده جالساً وراء منضدته مشغولاً بالعمليات الحسابية ،
فتقف منتظرة أن ينهي حساباته، وعندما يطول انتظارها تقول
الكلمة :ألاحظ أنك مشغول جداً ، خيرٌ لي أن أتركك الآن إلى وقت آخر.
الكاتب : أهٍ . أنت ؟ كنت أعتقد أنك لن تعودي.
الكلمة : وعدتك بالعودة.. وها قد عدت إليك.
الكاتب: أهلاً بك .. كان لغيابك تأثير كبير في حياتي.. لقد تبدّلت .. أصبحت إنساناً آخر.
الكلمة : صرت قرياً ؟ هذا واضح .. ألاحظ ذلك .. أين مكتبتك؟
الكاتب: بعتها.
الكلمة : وماذا وضعت مكانها؟
الكاتب : كما ترين ..آلات حاسبة ومصنفات وأنواعاً من أدوات البناء.
الكلمة:بدّلت أثاثك أيضاً؟ ومنضدتك ليست كما كانت من قبل، وفوقها الآن عدة هواتف ، وكنت
لا تملك هاتفاً واحداً.
الكاتب:الحرفة.. متطلبات الحرفة . يزورني رجال الأعمال . يتعاقدون معي على صفقات هامة
الناس كما تعلمين يُؤخذون بالمظاهر ، تجذبهم البهارج، تسرهم الأناقة والفخامة
والأشياء البالغة الضخامة.
الكلمة:هكذا إذاً؟
الكاتب:نعم.. نعم.. هذا واقع اجتماعيّ.
الكلمة: أنت تقول ذلك؟ إنّك لتدهشني .. أعدني إلى ذهنك أداة تعبير للوصول بالمجتمع إلى
الأفضل والأكمل.
الكاتب: فات الأوان .. أنا الآن من أصحاب الملايين ، و يهمني جداً أن يبقى كل شيء على ما
هو عليه.
الكلمة: أفهم.. فلقد صادفت في رحلتي الكثيرين ، وكنت كلما ذكرتك أقول في نفسي : إن كان
في الحياة كتّاب مثلك يعملون للحياة فسيظل هنالك أمل في أن تسير الأمور نحو الأصلح
.. نعم لم يحطمني اليأس على الرغم من أنه قد تبين لي أن وجودي ضعيف جداً خارج
كتبك ، فاعتزمت أن أعود إليك ، وأتحول إلى كلمة كما كنت ، كلمة صغيرة، ولكنها تحمل
من النور والضياء أكثر مما تحمل الشمس والقمر.
الكاتب: إني أرفضك ، وأرفض أن نتعامل.
الكلمة: كم يؤلمني قولك. وكم أندم على السنين الطويلة التي قضيتها معك.
الكاتب: أمّا أنا فلا يؤسفني شيء كأسفي على شبابي الذي أضعته في تعاملنا.
الكلمة: لك شأنك ، اعمل مع من شئت ، مع اللصوص ومصاصي دماء الشعوب ، كن واحدا
منهم ، فذلك ، وإن كان يؤلمني لا يدخل اليأس إلى قلبي .. في العالم كتّاب كثيرون
يعيشون كالموتى لتحيا شعوبهم ، يتحملون الفقر والعذاب والاضطهاد ، ولا يحنون
رؤوسهم أمام أيّ ضغط مادي ، والكلمة وجدت ليتعامل بها هؤلاء ، وليس المشعوذين
من أمثالك . أفهمت حقيقتك؟ أعرفت من أنت؟ تمتّع بدنياك ما استطعت ، خذ ما شئت
منها ، قصورها ، حدائقها، ملايينها، فلن يقال عنك في النهاية سوى أنك كنت كاتباً
مهرّجاً كاذباً مخادعاً.
الكاتب: اذهبي عني .. ابعدي ما استطعت ، فيكفي ما عانيت من شؤمك ، لقد حزن بسببك
أصدقائي ، وأصبحت مكروها من أولئك الذين كانوا يتوددون إليّ، ويحبونني .. أتريدين
أن توصليني إلى المشنقة ؟ إلى الموت؟.
الكلمة: ليتك متّ قبل أن تتنكّر لي وتهجرني ، إذاً لبقيتَ حيّاً في قلوب الناس. أمّا الآن ، فأنت
حيّ ولكنّك في الحقيقة لست أكثر من جثة عفنة.
الكاتب: اذهبي من أمامي .. إنّي أطردك ، لا أريد رؤيتك بعد اليوم.
الكلمة: لن تراني بعد اليوم لأنني أتعامل مع الحياة، ومن يتعامل مع الحياة لا يتعامل مع الموت.
( تتحول الفتاة بغتة إلى دخان ، ويصبح خيطاً أبيض ، وينقطع الخيط إلى أجزاء تشكل أحرفا ، وتتجمع الأحرف فتصبح كلمة). ستار.
من مجلة الموقف الأدبي.